Tuesday, August 28, 2012

هويات متصارعة أو أين تقع مصر


كتب عبد الناصر يوماً، كما نعرف، أن هناك ثلاث دوائر تنتمي لها مصر، الدائرة العربية والأفريقية والإسلامية. هكذا كتب، والله أعلم بما كان يقصده. شخصياً، أشك كثيرا في حضور الدائرة الأفريقية في أذهان الخطاب المصري العام في الستينيات، ولكن على العموم، أهل الستينيات أدرى بشعابهم. هل تغير شيء الآن؟ بالتأكيد. انتهت هويات وصحت هويات. اندثرت عدة هويات، واخترقت الرأس المصري هويات أخرى، وتغيرت أشكال الهويات عن مثيلاتها أيام الستينيات. من يعتقد مثلا أن الانتماء العروبي أيام عبد الناصر هو نفسه الانتماء العروبي أيامنا، أو أن الانتماء الإسلامي، المرتبط أكثر وقتها بطلبة الأزهر الأسيويين ودول العالم الثالث، هو نفسه الانتماء الإسلامي أيامنا؟ لا شيء يبقى على حاله. الأيام تغيرنا.
وبعد، فهذه محاولة لحصر الهويات التي تخترق الجسد المصري كما تبدو من أفكار الخطاب العام السائد الآن. أحيانا ما تتصارع الهويات، أحيانا ما ترتبط ببعضها، أحيانا ما تبدو غير واعية بما يميزها عن غيرها، ولكن في كل الأحوال، لا غنى عن التمييز، ولو كان مجرداً تماماً، بينها وبين بعضها.

الهوية الإسلامية: هوية – على العكس من اسمها – لا ترتبط بالإسلام وبتعليماته في حد ذاته – وإنما ترتبط بالمسلمين. أينما أهين المسلمون في أي منطقة في العالم فالتعاطف معهم واجب، من يوغوسلافيا وحتى بورما ومن فلسطين وحتى العراق، من الشيشان المحاربين ضد الروس وحتى الأفغان المحاربين ضد الأمريكان، من مفجري الكنائس المحاربين ضد المسيحيين، وحتى المرشحين الإسلاميين المحاربين ضد المرشحين المسلمين غير الإسلاميين. لا شيء إسلامياً هنا، لا شيء أخلاقياً، لا شيء إلا الدفاع عن إخوتي في الدين، والرد على افتراءات أمريكا حول الإرهاب، وعلى افتراءات الأقباط حول اضطهادهم. يقولون إنهم مضطهدون، إذن أغرقهم مشاهد اضطهاد للمسلمين على يد الأديان الأخرى. هذه هي ساحة المعركة. الأكثر اضطهادا سيأخذ بونبوناية في آخر الحصة. تقول أمريكا: "المسلمون يحاربون العالم"، وترد الهوية الإسلامية: "العالم يحارب المسلمين". فرق كبير. ها؟ جدير بالذكر أن الهوية الإسلامية في مصر تبدو أحياناً وكأنها تحاول عامدة الخروج من مركزية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لأن هذا الصراع احتكرته الهوية العربية منذ زمان طويل، وتحاول إيجاد أعداء لها بعيدين عن البؤرة الفلسطينية، تفتعل معركة مثلا مع "المد الشيعي"، تبدو أقل حماساً لحزب الله الشيعي في صراعه ضد إسرائيل. الهوية الإسلامية تحاول البحث عن دور مختلف في بلد أخذ كل خطاب فيها دوره وتمركز فيه.

الهوية العربية: غلبانة جداً. لا شيء يحميها غير خطاب مهلهل ظل يحارب دفاعا عن وجوده في العقود الماضية ثم انتهى إلى اللاشيء، لا تمثيل له في السلطة، لا وجود له في الوعي الجمعي. خطاب ليس محوره فقط "نحنا والعرب جيران"، وإنما "نحن والعرب هيتّة واهِد. الشكل هو هو، والدم هو الدم". الهوية العربية أيضاً لا تحارب ضد شيء ماعداً إسرائيل وأمريكا، لا فقر في البلاد العربية، لا بطالة، لا عنوسة، لا مجاري، لا شيء إلا إسرائيل وأمريكا، وأعوانهما من القوميات غير العربية التي تسكن في البلاد العربية، الأمازيغ والأكراد نموذجاً. وبرغم أن المرء يولد عربياً وفق هذا الخطاب، أي أنه منذ وجوده في بطن أمه وهو يشعر بالحنين للكوفة وحيفا ودمشق والقدس (انتبه، شمال أفريقيا غير موجودة)، إلا أن تحقق هذا الشعور ارتبط فقط بفترة الستينيات. تأمل كم الحنين الذي تشعر به عندما تسمع جملة صلاح جاهين/ عبد الحليم حافظ في أغنيتهما "المسئولية": "أحلف بكل صبي وصبية، بعيونهم الحلوة العربية"، لا يمكننا أيضاً نسيان انتعاشة الهوية العربية في التسعينيات على يد السيناريت وكاتب الأغاني مدحت العدل، حيث دوما ما تظهر في صراعات أبطاله فكرة محورية مفادها أن العرب لو اتحدوا فسيتمكنون من الانتصار على عدوهم، وهو إسرائيل دائماً، (وليس أمريكا حتى)، إسرائيل الممثلة في نجمة داود التي تظهر فجأة على شاشة كمبيوتر الأشرار (مافيا)، أو في يهودي شرير اسمه "يودا" يسعى للإيقاع بالبطل الطيب (همام في أمستردام). بعد انتشار كليب "الحلم العربي"، الذي ألفه العدل ولحنه حميد الشاعري وقال مطلعه: "أجيال ورا أجيال، هتعيش على حلمنا"، وغناه مطربون من كافة أنحاء الوطن العربي، استضاف أحد برامج التليفزون المصري مدحت العدل، قالت له المذيعة إن الرئيس مبارك دائما ما يدعو للسلام والتصالح. اعتبر مدحت العدل هذه المداخلة من المذيعة معادية لفكرة الهوية العربية، فقال لها مستدركا إن الرئيس مبارك أيضاً دائما ما يدعو للوحدة العربية. هكذا. استغل الطرفان الرئيس مبارك كأيقونة للتأكيد على فكرة الهوية العربية أو لدحضها.

الهوية المصرية: التذاكي في أقصى صوره. نحن لسنا مسلمين بالأساس، نحن لسنا عرباً بالأساس. (قد يكون بعضنا مسلما وبعضنا عربياً، عادي) ولكن علينا أن نرمي وراء ظهورنا تخلف الهويتين العربية والإسلامية، ونفكر في الهوية المصرية المتقدمة. مصر يا أول نور في الدنيا شق  ضلام الليل، احسبي عمر الخير في الدنيا يطلع عمر النيل. نحن أهل الزراعة والنهر والحضارة ومن حولنا بدو متخلفون. مصطلح "البدو" الذي طالما حيّرني يعني عدة أشياء: أولا الخلايجة الذين علمهم المصريون في إطار هجرة الأخيرين للتدريس ببلاد الخليج، ثانيهم اليهود، راجع النقاش الساخن حول  فيلم "المهاجر" ليوسف شاهين، وكيف استنكر المثقفون أن يأتي واحد من أهل الرعي "إسرائيلي، النبي يوسف"، ليعلم المصريين الزراعة، وثالثهم العرب كلهم، بمن فيهم من ليسوا بدواً، هو كدا، غباوة! ملحوظة أخيرة: الهوية المصرية ليست منغلقة تماماً، هي أصلاً جاءت للرد على شيوع الهوية الإسلامية، التي جاءت بدورها ردا على تهمة الإرهاب الإسلامي، ولكن لا شيء مصرياً في الهوية المصرية، لا شيء مخلص لمصر. في أغلب الأحوال فهذه الهوية المصرية المتذاكية هي تطور للهوية المتوسطية لمصر التي نادى بها مثقفون كبار في منتصف القرن الماضي. سنتفق أنا وأنت على أننا نحب الهوية المصرية التي لا تنتمي لشيء خارجها، ولكنني، أنا وأنت، نعلم أن امتداد مصر الذي نتمناه هو في شمال البحر المتوسط وأوروبا. شقتنا بحري وليست قبلي.

الهوية الشرقية: الصياعة المطلقة. تنتمي "الهوية الشرقية" لا إلى النخبة كالثلاث هويات الأولى، وإنما إلى "رجل" الشارع الحقيقي، مجتمع الطبقة الوسطى وما أدناه. لا شيء دينياً في هذه الهوية، وإنما هناك شيء أخلاقي صارم أحيانا ومتلاعب أحياناً أخرى. "احنا ف مجتمع شرقي"، هي الجملة المفتاح. المجتمع الشرقي مهووس بالحد من العلاقات الجنسية، خاصة إذا تعلق الأمر بعلاقات المرأة الجنسية، ليس بالأخص، فقط، فقط إذا تعلق الأمر بعلاقات المرأة الجنسية، لأن المجتمع الشرقي يعني أيضاً، فيما يعني، حرية الذكر المطلقة. على حد علمي، لم أر أماً تلوم ابنها العطاط باستخدام حجة: "احنا ف مجتمع شرقي يابني. الناس هتقول علينا إيه". لا. المجتمع الشرقي ضد الجنس إذا ما تعلق فقط بالمرأة. المجتمع الشرقي بالمناسبة مجتمع علماني، لا علاقة له بصلاة أو صوم أو دعم الإسلاميين في الانتخابات. المجتمع الشرقي يحشش ويسكر ويسرق، وشرقيته تنحصر في انحيازه للذكر بشكل واضح. "انا راجل شرقي"، تعني في الغالب معنى واحد: "من حقي اغير. ومن حقي افشخ البت اللي معايا عشان باغير. وهي هتنبسط اني باغير عليها لإن الستات عاوزين كدا، ولو هي فكرت تعمل زي ما انا بعمل يبقى ماينفعش عشان احنا ف مجتمع شرقي". في الغالب، يستخدم الرجل تعبير: "انا راجل شرقي"، لتصوره إنها تزيد من جاذبيته، أحمد السقا نموذجاً للفحولة الشرقية الأخلاقية الذكورية الجذابة. المجتمع الشرقي هو جنة الذكور.

هناك فارق نوعي كما قلنا بين الهويات الثلاث الأولى والهوية الأخيرة، الشرقية، وعلى الغالب، ففيما تبدو الهويات الثلاث الأولى نخبوية تماماً ومشغولة بالرد على سؤال: "أين تقع مصر"، فإن الهوية الأخيرة ترد بإجابة فريد شوقي، وهو رمز آخر للذكورة المصرية العنيفة والجذابة والقادمة من أسفل المجتمع، وهو يقوم بدور السلطان المزعوم لسلطنة بورنجا: "والله هي لسة ماوقعتش، بس مسيرها تقع بإذن الله".
____________________
نُشر في موقع "البديل" الإلكتروني بتاريخ 26 أغسطس 2012 

Wednesday, April 25, 2012

عمرو بيه: أنا أقدم واحد ف العمارة دي





في طريقي إلى فيلا عمر بيه، بمنتهى الأمانة، كنت موهوماً. رجل دولة حقيقي من الطراز القديم، ينتمي للزمن الحقيقي الجميل، قبل تشوه القاهرة بعمارات سرطانية تشوه الأفق وتحجب السماء عن أعين قاطنيها. الرجل الذي سألتقيه حالاً هو باشا، برنس بالمعنى الحقيقي.

ناولني عمرو بيه كأساً، ثم بدأ حديثه بأن سألني عما يحدث. قلت له إن هناك اعتصاما لأولاد ابو اسماعيل في التحرير، أخفى وجهه في الأرض ومصمص بشفتيه متمتما بكلمة غامضة. بدا يعاني ألماً نفسياً هائلاً لما آل له وضع مصر. نظر لي فلاحظت أن عينيه محمرتان. قال لي بأسف حقيقي: " فوضى شديدة. فوضى شديدة مفيش كلام. في الحقيقة أنا تقدمت بمشروع للحد من هذا الوضع، المشروع كان بيقوم على بنود عديدة لتقريب رجل الشارع من المطبخ السياسي، لكن ما يحدث الآن هو إن دا بيقول كلام، ودا بيقول كلام، فأنا كمواطن بسيط لا أستطيع أن أفهم، فماذا يحدث، اللي بيحدث هو نوع من الفوضى غير الحميدة، لا لا لا لأ، غير حميدة إطلاقاً. للأسف الثورة استغلها مجموعة من المنتفعين من النظام السابق. الوضع مؤسف فعلاً".

كنت مسحوراً بطريقة صياغة عمرو بيه لجملته. بدا لي هو الوحيد القادر – بالفعل، وليس بالقول – على قيادة الدفة المصرية لبر الأمان، وتقديم مشروع واضح للنهضة. ناولني كأساً آخر ثم واصل حديثه: "يعني قد إيه أنا بأسعد لما ألاقي واحد من أفراد الشعب مهموم بقضايا وطنه، النظام السابق كان بيحرمنا من رؤية شبابنا الجميل (يبتسم) ولا أخفيك إني كنت واحد من الناس اللي يائسين من وضع البلد. (يقهقه عالياً) دا حقيقي. ماتستغربش. احنا كنا مندهشين من إن إزاي الشباب دا طلع بكل هذه الوطنية وكل هذا الحب لبلده. (ينتقل للجدية) ولذلك في الحقيقة فمشروعي بيقوم في الأساس على دعم الشباب. وَ.. وَ.. وَ..وَ.. وبالتالي فيه مناطق في الصحراء الغربية أنا بَأندهش فعلا يا نائل بيه إنها ازاي غير مستثمرة لحد هذه اللحظة. شيء مثير للدهشة لأبعد الحدود، باكلمك بصدق".

الكأس الثالث: "الشعب المصري ذكي، ولذلك استحالة يتقبل مجموعة من الناس اللي استغلت الثورة – وباقولهالك بصدق يا نائل بيه، يعني من الكلام مع أفراد حملتي أثبتلي مقدار ذكاء هذا الشعب العظيم، هل تعلم حضرتك إن هذا الشعب العظيم بنى الأهرامات، وبنى حضارة عظيمة تمتد لسبعين ألف سنة (أفكر في أنه أضاف صفرا من عنده على الرقم المتداول، ثم أعاود التفكير في أنه فعل هذا لمقدار إيمانه بقدرة هذا الشعب على صنع المعجزات)، فهل إنت هتقنعني إن هذا الشعب سيأتي عليه يوم ويصدق مجموعة من ال.. ال.. ال.. هه؟ مش معقول خالص."

صمت طويل يعقبه إعداده كأساً لي بنفسه. ثم يستند على المخدة. يضع ساقاً على ساق. يبدو في وضع استراحة المقاتل. فجأة يتحدث بصوت خفيض: "أنا قلتلهم.. قلتلهم إن هذا غير قانوني وغير دستوري.. وللأسف كانوا بيروا إن الحل يمكن تأجيله، (يقوم فجأة، ينظر لي بعينين محمرتين تماماً) انا تم رفضي من أغلبهم. الجميع وقتها قالوا عمرو بيه مش عاوز يلايمها، عمرو بيه بتاع الكلام الجد، عال، سألتهم إيه البديل، فماحدش رد. احنا بندفع تمن.. تمن.. تمن.. تمن خطايا سياسية كبيرة جدا، خطايا سياسية، مش أخطاء سياسية، لا لا لا لا. الفرق كبير خالص".
مازلت منبهراً بقدرته على صياغة الجملة ودقته اللغوية. غير وضع الساق- على – ساق وقرر ثني ساقه اليمنى وإراحتها على الكنبة. ينام قليلاً ثم يصحو: "حضرتك عارف ان الأجانب. الأجانب بيقدروا الخمرة.. بيحترموها.. المصريين بيحبوا الحشيش (بابتسامة بعينيه الكحيلة) فرق كبير. هه؟"
ينعس قليلاً، يتصاعد صوت شخيره، ينسحب الروب عن سمانته المشعرة، منظر مقرف جداً، يع فعلاً، لكن معلش، فجأة يصحو. ويبدأ في الصراخ: "أنا أقدم واحد ف العمارة دي. أنا أقدم واحد ف العمارة دي". تبدأ أعصابه في الاسترخاء مرة أخرى، وتبدأ عيناه الكحيلتان في الانغلاق. يدندن:  "انا اقدم واحد فيكي، وامانك م اللي بانيكي، احنا في زمن المسخ، هه؟ مش صح؟ زمن مسخ مفيش كلام". ثم يعلو صوت شخيره.

Tuesday, March 13, 2012

"يا تقنعني يا اقنعك"



"كنت أراقبك وأنت تمارس رغبتك المريضة في تفنيد جميع حجج خصمك وألا تبقى له حَجَراً على حجر من نظريته"

عاموس عوز

من رواية "الوضع الثالث"

***

واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ البشرية هي أكذوبة السجال، أو "يا تقنعني يا اقنعك".

على حد علمي ومعرفتي المتواضعة، لا أحد يقتنع بأي شيء رغماً عنه. أي: لا أحد يقتنع بأي شيء لا يريد الاقتناع به في الأصل، لا أحد يقتنع بشيء لمجرد أنه منطقي ولمجرد أن من أمامه استخدم حججاً أقوى في الإقناع.

في الغالب، يقتنع البشر بأفكار معينة لمجرد أنهم يريدون الاقتناع بها، أنا أسكن في منطقة فقيرة، لذا فعليّ أن أصدق أن هذه المنطقة المعفنة ناسها أطيب وأكثر دفئاً من المنطقة الراقية الباردة التي بجوارها. أنا أشتري موبايل صيني أرخص، فأضطر للاقتناع إن "إمكانياته قليلة صحيح لكني مستريح معاه". الإقناع يحدث بسبب عنصر آخر فعال، وهو "الزَنّ". أنا – كفتاة مثلاً– ولدت في مجتمع تتحجب كل فتياته، لم أر في حياتي فتاة غير محجبة، وجميع من حولي يؤكدون أن الحجاب فضيلة، لذا فمن الطبيعي أن أقتنع بالحجاب، وأن أؤكد لنفسي وللآخرين كل مرة أن "اقتناعي هذا نابع من عقلي". أنا – كفتاة مثلاً - عندما خرجت إلى وسط البلد لم أشاهد فتاة محجبة واحدة، ورأيت كل من حولي يؤكدون أن المحجبة هي امرأة تغطي عقلها قبل أن تغطي شعرها، لذا فمن الطبيعي أن أنظر للحجاب بوصفه "إيه الكلام القديم والبِيدان دا؟!"، وأيضاً سأؤكد لنفسي ولمن حولي أن "اقتناعي هذا نابع من عقلي". الزن على الودان أمر من السحر. لا يمكن أن يقول كل من حولك شيئاً وتقول أنت شيئاً مختلفاً ويكون ما تقوله هو الحقيقة. لابد لك من التصالح مع المجتمع.

كل شيء يؤدي إلى اقتناع الفرد بأفكار معينة، كل شيء، ما عدا، أن يجلس في سجال مع آخر، فيقنعه الآخر بـ"سحر بيانه" و"قوة منطقه وحجته" فيؤمن الأول بالفكرة التي كان قبل السجال معادياً لها.

***

السجال هو كلمة السر. هدفه المعلن هو الوصول إلى الحقيقة، الحقيقة المجردة التي سيظل الطرفان ينبشان للوصول إليها حتى يكتشفانها. هذا هو التصور البدائي لـ"السجال". ولكن هدفه الحقيقي والخفي هو الانتصار، طمع أي طرف في الانتصار على الآخر، تلك المتعة المجردة والبسيطة التي يخلقها النطق بالكلمة الأخيرة والشعور بهزيمة الآخر وبارتباكه، ببساطة. السجال لعبة كالطاولة. هل تغير الطاولة مصائر الشعوب وقناعات الأفراد؟ طبعا لا، ولكنها تحقق ذلك الزهو الشرير بالانتصار.

***

سيرد الكثيرون بأن الأمر مختلف. أنهم يتناقشون كثيراً لمعرفة الحقيقة مجردة عن أي شيء. لا رد لي عليهم. ما أقوله هنا ببساطة، هو وجهة نظري فيهم وفيّ، لا وجهة نظرهم هم في أنفسهم.

***

طبعا، يفترض في السجال أن يكون نزيهاً. أن تكون هناك رؤيتان مختلفتان يقتنع بها كل من المتساجلَيْن. وأن يعرض كل منهما تلك الرؤية بلا لف ولا دوران، وأن يظل الطرفان يتساجلان – بمنتهى الشفافية - حتى يقنع أحدهما الآخر برؤيته، والتي تمثل الحقيقة النهائية، والحقيقة واحدة وحيدة في هذا التصور. وكما يقول المثل الشعبي "يا تقنعني يا اقنعك". هذا لا يحدث أبداً. هذا فوق قدرات الإنسان، إنه كان ظلوما جهولاً. السجال لعبة قذرة، قذرة بمعنى أنها لا تسعى للوصول إلى الحقيقة، ولكنها، كأي لعبة، تحوي قواعد قليلة صارمة والكثير من الشفرات الغامضة فيما بين السطور.

***

منذ ما يزيد عن عام، أي منذ انفتاح المجال السياسي بقوة، وكثير من المصريين لا يفعلون شيئاً سوى السجال. تعد هذه اللحظة هي اللحظة المثالية لتناول موضوعنا هذا. انتظم المصريون (ربما منذ استفتاء 19 مارس أو قبله بقليل) في مسارين مختلفين، كل مسار يضم فريقين متناحرين. أحد المسارين هو مسار "علمانيين/ إسلاميين"، والآخر مسار "ثوار/ فلول". في أيام بعينها كنت أقرر ممارسة هواية السجال، لصالح فريق الثوار بالطبع (في الحقيقة فلقد فقدت اهتمامي بالجدال العلماني الإسلامي منذ شهور عديدة). في النهاية، لم أستطع إقناع أحد من الفلول بتبني الثورة، وأنا واثق أن الفلول أيضاً لم يتمكنوا من إقناع أحد من الثوار بتبنى موقف السلطة. من أقنعتهم كانوا مقتنعين بالأساس، ومن أقنعوهم كانوا مقتنعين بالأساس. بالطبع رأيت كثيرين يتحولون من موقف فلولي إلى موقف ثوري، أو من موقف ثوري إلى موقف فلولي، ليس بفضل وجاهة الإقناع ولا حسن البيان، وإنما فقط بفضل الزن. الزن مبهر. للزن طاقة رهيبة.

كثيراً ما مارست التدليس الثوري في السجال. عادي. كلنا مدلسون. يوم 10 فبراير سألني أحد المعتصمين في التحرير: "كابتن، انا عندي 35 سنة ولسة ماتجوزتش. تفتكر لو مبارك مشي انا هاتجوز؟"، أجبته بابتسامة: "طبعاً. تاني يوم". الآن، أستخدم الحجة النقيضة للإقناع بأن الثورة مستمرة: "انتو فاكرين الثورة تمنتاشر يوم وبس، ولا فاكرين ان تاني يوم مشيان مبارك كل حاجة هتبقى كويسة؟!"

ذات مرة أبهرني واحد من الفلول. كان يقنع المعتصمين في ميدان التحرير بأهمية الرجوع لبيوتهم، بينما أنا كنت أمارس "التوعية الثورية". استخدمت منطقاً لا يمكن دحضه بسهولة: "انا باقبض 500 جنيه ورئيسي في الشغل بيقبض ربع مليون جنيه"، دا يرضي حد؟" نظر لي أحد الوقوف بغضب شديد وسألني: "انت بتقبض 500 جنيه؟" قلت له: "ايوة". قال لي: "احمد ربنا. انا عاطل يا استاذ. اتطردت من المصنع بعد الخصخصة". قلت في نفسي أن الرجل هدف سهل للتوعية الثورية. شخص تم طرده من المصنع على يد حكومة رأسمالية، لابد أن ينضم لصفوف الثوار. واصل الرجل: "وحضرتك زعلان عشان بتقبض 500 جنيه؟" حاولت الإيضاح له بوجل وانا عاجز عن تفسير غضبه ضدي: "نحن نهتف من أجل حقوق العاطلين أيضاً". فقاطعني بغضب: "نهتف لمين؟ اهم حاجة اننا نحمد ربنا. لو حمدنا ربنا كل حاجة هتبقى كويسة." أوبااااا. عملها ازاي ابن اللعيبة دا؟

أحياناً ما ينمو السجال على مدار أيام طويلة. لنحاول أن نتذكر الآن جملا قصيرة، استخدم فيها الثوار المنطق العائلي واستخدم الفلول المنطق المضاد للمنطق العائلي:

- الجيش عرا اختك ف التحرير.

- وهي ايه اللي وداها هناك.

- تخيل لو دي كانت اختك.

- ماحدش يقولي لو دي كانت اختي! انا اختي ماتروحش التحرير.

هذا المنطق والمنطق المضاد استغرق أياما طويلة – بعد بدء أحداث مجلس الوزراء - كي يتشكل، كلمة من هنا على كلمة من هناك على مانشيت صحفي، كل هذا لكي تصبح أربع جمل هي عنوان السجال حول الأحداث.

نفس المنطق، والمنطق المضاد، تمت ممارسته من قبل. ولكن، يا للعجب، مع تبدل الملاعب أثناء فترة الراحة بين الشوطين. من استخدموا المنطق العائلي كانوا هم الفلول والمنطق المضاد للمنطق العائلي كانوا هم الثوار:

- شوية عيال بيشتموا راجل ف سن ابوك ف التحرير.

- وهو ايه اللي خلاه يتشتم. ما كان يمشي بكرامته.

- يا جماعة اعتبروا مبارك ابوكم.

- ماحدش يقولي اعتبر مبارك ابوك! انا ابويا اشرف منه.

-

***

منذ أسابيع طويلة، حاولت مقاربة هذا الموضوع، باستخدام تيمة واحدة من تيماته، وهي تيمة "العقل ولا القلب"، أي مَن مِن العقل أو القلب هو الذي يمكن باستخدامه إفحام الطرف الآخر في السجال؟ طبعاً، وكالعادة، لم يهتم الكثيرون بالموضوع. عادي. أعرف هذا الموضوع فيّ منذ زمن طويل، ما أهتم بصدق به، ما أجدني أفكر فيه طول الوقت منفردا مع نفسي، لا يهم الكثيرين غيري.

***

مسار آخر من مسارات السجال التي تمتلأ بها أيامنا الصاخبة تلك، هو مسار "علمانيين/ إسلاميين". مسار متشعب ومعقد ومثير للاهتمام للغاية. بطبيعة الحال، فالعلمانيون هم الأكثر حنكة في إدارة السجال، هم الأفضل تعليماً في الغالب، وهم من يجيدون استعمال المصطلحات، لكن بالنسبة لاختبار "النزاهة"، و"محاولة الوصول للحقيقة"، فلا فضل لعلماني على إسلامي ولا العكس. ليس هناك شيء اسمه "نزاهة" في العالم، وبالطبع، ليس هناك شيء اسمه "الحقيقة".

تدربنا كثيراً - كـ"مثقفين"، أو، بأقصى قدر من الدقة، كمنشغلين بالشيء الذي يسميه البعض "ثقافة" - على حروب "حرية التعبير". مثلاً، يطالب أحد الإسلاميين بمصادرة كتاب ما، فيكون أول سؤال لهذا الإسلامي: "هل قرأت هذا الكتاب"؟ الرد سيكون واحداً من اثنين، إما نعم أو لا، ولكل من الردين رده الخاص. إن قال الإسلامي "نعم" فسيكون الرد عليه: "كيف تطالب بمنع ما سبق وقرأته أنت؟ هل تمارس الوصاية؟ هل تعطي لنفسك الحق الوحيد في القراءة؟" وإن قال "لا" فسيكون الرد: "كيف تعترض على كتاب لم تقرأه أصلا؟" أنت مفقود مفقود يا ولدي.

الإسلاميون أيضاً يفعلون هذا، بشكل أبسط. حين تعترض على شيء ما ينادي به الإسلامي، مثلا "الحجاب"، مثلاً "اللحية"، فسيبادرك بالسؤال: "أخي، إنت مؤمن بالإسلام؟" إن قلت نعم فسوف يقنعك من داخل نصوص الإسلام أن الحجاب فريضة وأن اللحية فريضة، وإن قلت لا فأنت كافر، وسيبدأ محاولته لإقناعك بالإسلام من البداية. الإجابة، أي إجابة، هي فخ.

مصر هي عنوان كبير للسجالات. كان مدهشا لنا أثناء "موقعة الجمل"، كيف أن كلاً من الفريقين المتطاحنين كان يحمل علم مصر. المعارضون لمبارك كانوا يهتفون بحب مصر، وكذلك المؤيدون. ولكن الموضوع أيضاً له جذور في المسار العلماني/ الإسلامي. طيب، لنتأمل قليلا قضية التمويلات الأجنبية التي أثارها الإسلاميون والفلول. من أثاروا القضية وضعوا عنوانا "وطنياً" لمعركتهم ضد "المتظاهرين ومراكز حقوق الإنسان والعلمانيين"، لقد بدا هنا الإسلاميون والفلول وكأنهم الأكثر وطنية. في نفس الوقت، وفي جمعة قندهار، كان واحداً من أبرز اعتراضات العلمانيين والثوار على هذه الجمعة "السلفية" هو رفع علم السعودية في ميدان التحرير. لقد صور العلمانيون السلفيين وكأنهم ضد مصر، ووضعوا هم أيضاً "عنواناً وطنياً" لمعركتهم. وبينما يتحدث الإسلاميون عن "الاتجاهات الغريبة التي لا تلائم مجتمعاتنا"، ويقصدون بها "الاتجاهات الغربية، مفهوم الحرية المطلق، العلمانية"، فسوف نجد العلمانيين أيضاً يستخدمون نفس الحجة المجتمعية والوطنية، حين يهاجمون "الوهابية السعودية المتزمتة الغريبة عن إسلامنا السمح والوسطي". نفس الحجة لكن الفاعلين يتبدلون كل مرة.

شخصياً، أعتقد أن لا أحد يهتم فعلا بـ"مصر". وبشكل صادق، فأنا لا أعتقد أن في "مصر" هذه، بحدودها ودستورها وعلمها ونشيدها الوطني، ما يثير الاهتمام. القوميون العرب يؤمنون بالوحدة العربية، الاشتراكيون يؤمنون بالأممية، الإسلاميون يؤمنون بدولة الخلافة. من ليسوا قوميين ولا اشتراكيين ولا إسلاميين يؤمنون بعملهم ومرتباتهم. لا أحد يعني بـ"مصر"، ولكن مصر هي عنوان جاهز للاستخدام السجالي.

نفس الأمر ينطبق على فكرة "القانون". لا أعتقد مطلقاً في وجود ذلك الشخص المؤمن بالقانون كما هو مكتوب، المخلص له والمستعد للاستشهاد في سبيله. الناس في الغالب يؤمنون بـ"الحق". و"الحق" هنا يعني: "الحق من وجهة نظرهم الشخصية"، ولكن لأن الحق مفهوم نسبي يختلف من شخص لآخر، يضطر الجميع للاحتكام، أو للتظاهر بالاحتكام، للقانون. الإسلاميون هائجون اليوم ضد من يريدون "إسقاط الدولة"، أي إسقاط الدولة بمفهومها القانوني، وكثير من العلمانيين هائجين ضد الجماعات الإسلامية المحظورة قانوناً" أو يرفعون أصواتهم ضد "استخدام الشعارات الدينية في الانتخابات"، وهو الأمر الممنوع قانوناً. القانون ممسحة جاهزة للاستخدام في السجال.

***

أمثلة أخرى لـ"مفقود مفقود يا ولدي" في السجال:

1- مثال للانتصار الثوري:

- الجيش قتل الناس في ماسبيرو. الجيش قاتل، وعشان كدا يسقط حكم العسكر.

- لا. المدرعة اللي موتت الناس ماكانتش بتاعة الجيش.

- يعني اتسرقت؟

_ آه اتسرقت.

- يعني الجيش بتتسرق دباباته. يبقى الجيش فاشل، وعشان كدا يسقط حكم العسكر.

(يصمت مهزوماً)

2- مثال للانتصار الفلولي:

- دي صور الشهداء اللي الجيش قتلهم.

- والجيش عنده شهداء أكتر. اشمعنى بتقول دول شهداء وشهداء الجيش مش شهداء؟

- فين شهداء الجيش؟ فين صورهم؟ الجيش بيكدب علينا.

- طبعاً لأ. لكن الجيش أكبر من انه يتاجر بموته. الجيش بيضحي بعساكره عشان مايولعش ف البلد.

(يصمت مهزوماً)

***

في الأيام السابقة فكرت كثيراً في علم جديد، وهو علم "السجال". سألت عن وجود هذا العلم من عدمه في دراسات العلوم الإنسانية فلم يفدني أحد بوجوده. كان هذا مدهشا بالنسبة لي. لو تأسس العلم سيفتح أبوابا كثيرة لفهم شيء عن الحقيقة وعن المنطق وعن قوة منطق ما إزاء منطق آخر. ما فائدة هذا العلم؟ لا أعلم، ولكن ما فائدة دراسة علم التاريخ؟ ما فائدة لعب الطاولة؟ ما فائدة السجال في حد ذاته؟ لا شيء على المدى القريب. فقط المتعة.

في المرحلة الثانوية درست عن "علم الكلام". لم أتعمق فيه. ولكن مفهومه ظل ساحراً بالنسبة لي. فكرت أن "علم الكلام" ليس علماً، هو ممارسة، حاول "علماء الكلام" إقناع غيرهم بالإسلام، وطوروا آليات جديدة ومختلفة كل مرة للإقناع. لم يكونوا فلاسفة. لم يكونوا باحثين عن الحقيقة ولم يدعوا أنهم باحثين عن الحقيقة. كانوا "يعرفون الحقيقة" من البداية، وهي أن الإسلام حق، فقط انصب جهدهم على معرفة كيفية يمكن إقناع غير العارفين بالحقيقة. ما أريد دراسته هنا ليس مجرد "كيف استطاع علماء الكلام إقناع غيرهم بالإسلام"، ولكن أيضاً "كيف استطاع التبشيريون إقناع غيرهم بالمسيحية"، "كيف استطاع السفسطائيون إقناع الآخرين بالحقيقة ونقيضها". علم السجال ليس علماً سفسطائياً، ولكنه يهتم بدراسة آليات السفسطائيين، يهتم بدراسة مناطق القوة ومناطق الضعف في السجال، يهتم بدراسة عملية "الإقناع" الفاتنة.

وفي النهاية، الله أعلم، قد يكون مثل هذا العلم موجوداً. الدنيا دي فيها كل شيء.


Saturday, November 26, 2011

القلب ولا العقل


عزيزي القارئ:

كثيراً ما يناقشك شخص ما فيقول لك جملة: "أنا أعلم أن موقفك صحيح، ولكن موقفك مبني على حسابات القلب، وموقفي قائم على الحسابات العقلانية". فماذا تعني هذه الجملة؟ في الحقيقة فإن هذه الجملة تتردد عندما لا يكون الخلاف بين الشخصين كبيراً. ويكون لدى كل من الشخصين نفس الغاية، ولكن موقف أحدهما قائم على حسابات القلب، والموقف الآخر قائم على حسابات العقل.

هل أضفنا جديداً؟ بالطبع لا.

***


سجال "العقل والقلب"، يتردد طول الوقت. على الأقل، فإنه يبدأ في الظهور عندما يتعطل سجال "الخير والشر"، أي، عندما يتوقف من أمامك عن أن يصبح ممثلاً للشر وتتوقف أنت عن أن تصبح ممثلاً للخير. لستما عدوين من الآن فصاعداً، الجدل يدور الآن حول الوسائل، لا حول الغايات، يبدو أنكما تتشاركان نفس الغايات.

الموضوع ليس نسبياً تماماً. يخبرنا الجميع أنه لا فضل للقلب على العقل ولا فضل للعقل على القلب، أن الاثنين يتشاركان في صياغة القرار السليم، بدون تحديد من منهما يملك النصيب الأكبر. ولكن في سجال من هذا النوع، سجال قائم على الإقناع بين طرفين مختلفين، فإن الأولوية تصبح للعقل. يخبرك شخص ما بأن طريقه للوصول إلى الغاية – التي تطمح أنت أيضاً للوصول إليها – هو الطريق العقلاني، وطريقك هو العاطفي. ويسجل بذلك نقطة عليك. فهل يمكنك أن تحاججه وتقول: "أنا أعلم أن طريقك هو طريق الحسابات المنطقية، ولكن بالنسبة لي فإن ما تحركني هي المشاعر". لا يمكنك، ستخسر النقاش حتما فورما تقول ذلك. هذا كلام ربة منزل أو أب مفجوع على أطفاله. إذن، العقل هو سيد الموقف. يعترف الطرفان بذلك. قد يختلفان على تعريف الموقف العقلاني من بين موقفيهما، ولكنهما بالتأكيد سيصطلحان على إعطاء العقل النصيب الأكبر من عملية إنجاح القرار. العقل هو الورقة الرابحة.

أزيد على هذا أيضاً فأقول، أحياناً ما يكون متوقعا من سيستخدم حجة "العقل والقلب" ومن لن يستخدمها من بين الطرفين المتساجلين. في الغالب الأعم، فمن يستخدمها هو الطرف المتهم بالتخاذل. لدى طلب أبو مازن من الأمم المتحدة الاعتراف بدولة فلسطين على حدود 5 يونيو 1967، أصرت مجموعات من الفلسطينيين على أن تقام دولة فلسطين على كامل التراب الفلسطيني. في هذه الحالة، يستخدم الطرف الأول، طرف أبو مازن، حجة "العقل والقلب" أمام الطرف الثاني. عندما يتجادل علماني وإسلامي حول الأندلس مثلاً، فإن العلماني هو الذي يستخدم الحجة ضد الإسلامي: " نحن جميعا نريد أن تعود الأندلس عربية، ولكن كلامك غير عقلاني، إنه عاطفي". "لحد إمتى هانمشي ورا الشعارات والعواطف. عاوزين نحكم عقلنا شوية"، كان هو الخطاب الإعلامي الذي يبرر كامب ديفيد أمام معارضيها.

"هناك فرق بين التعاطف وبين الحسابات السياسية. نحن نتعاطف مع المتظاهرين في التحرير، ولكننا لا نستطيع المشاركة"، هذا هو خطاب الإخوان لتبرير عدم مشاركتهم في الانتفاضة التي اندلعت يوم 19 نوفمبر 2011. كل طرف يستخدم نفس الحجة في مواقف مختلفة في حياته. ليس هناك طرف يتصور نفسه عقلانياً على الدوام ولا طرف يتصور أن المشاعر تحركه على الدوام. كلنا خليط من هذا وذاك. نكون هذا حينا ثم نكون ذاك حينا آخر.

ليس الإخوان فقط من استخدموا سجالية "العقل والقلب". في الخطاب الإسلامي كله هناك مفردة أثيرة "الهوى". في سجالات "تطبيق شرع الله"، يتم استخدام "الهوى" كثيراً. العلمانيون مثلاً يؤذيهم منظر الأيدي المقطوعة للصوص. هذا الإيذاء النفسي هو "هوى"، "قلب"، "شعور شخصي قد يُحترم"، ليس أكثر من هذا، وهذا الشعورالشخصي تقف ضده الحقيقة الصلبة القائلة بأن قطع أيدي اللصوص سيقلل معدلات الجريمة. للإنصاف، فالهوى هنا يمثل القلب، المشاعر، ولكنه يمثل الميول الشخصية أيضاً: الرغبة في التفوق على الآخرين مثلا. الرغبة في محاباة الأقارب، في الإثراء على حساب الآخرين. كلها أهواء. ومقابل الهوى لا يوجد العقل. إنما يوجد كلام الله. كلام الله كان، وقت الرسالة، هو الحقيقة الموضوعية المحسوبة جيداً، والتي أحياناً ما يقف القلب ضدها. مثلما أنه كثيرا ما كانت مفردة "العلماء" تعني "المؤمنين"، فمفهوم العقل كان قريبا من مفهوم "الإيمان بالله كما وُصف في الإسلام".

أحياناً ما تتم المساجلة ضد العقل، وبشكل صريح، أحيانا ما يقف شخص ويقول "أنا ضد العقل"، ولكن الدافع هنا لا يكون أبداً هو المصلحة التي سيأتي بها الاندفاع وراء المشاعر. الدافع غريب: الملل الكامن في الحسابات العقلانية. بعد رفض صنع الله إبراهيم لجائزة المجلس الأعلى للثقافة، تم وصف تصرفه بالجنون. لم ينكر هو. قال إنه حتى لو كان تصرفه مجنونا فما المشكلة؟ لقد مللنا من حكمة الشيوخ. هذا هو معنى كلامه.

الملل من حكمة الشيوخ هو الستار الذي يختبئ خلفه مفضلو القلب على العقل. هذا مجرد ستار، ولكن الحقيقة هي أن ثمة ما بين السطور هنا. في ولا وعي كل منا يرتبط العقل بالتخاذل، أو بالدفاع عما هو سائد بشكل أدق. العقلانية هي تبرير الجبن. يعرف هذا الشجعان وأبطال الأساطير، ولكنهم عندما يضطرون لعدم التصريح بهذا، فإنه يؤكدون مللهم من حكمة الشيوخ. هكذا يمكنهم تسديد ضربة ضد العقل. العقل ممل، والمشاعر هي التي تحمل الإثارة والشباب والحيوية والتغيير.

في فيلم "ناصر 56" يعمل الصحفي مع مجموعة من قوى الثورة المضادة، إقطاعيين وباشوات قدامى، يخطط معهم لإسقاط عبد الناصر بعد إعلانه تأميم قناة السويس. ولكن بعد إعلان القوى العظمى الحرب على مصر يتغير موقفه ويساند عبد الناصر بكل قواه. يسأله أحدهم عن السبب التغير فيرد بنبرة حالمة: "المرة اللي فاتت كنت بافكر بعقلي. دلوقتي بقلبي". هكذا إذن، حقبة التخاذل والعمل لصالح القوى الرجعية هي حقبة العقل، وحقبة الاندماج في المشروع القومي الجبار هي حقبة القلب. وملاحظة أخرى: الواقفون بجانب القلب لا يبررون موقفهم، لا يدعون أن هذا هو القرار "الصحيح"، ولا أن نتائجه أفضل. هم فقط مع القلب، بدون تبريرات سوى الرغبة الملهمة في خوض المجهول. العقل هو مملكة "الصحيح" و"السليم" و"العادل" و"الحق"، والقلب هو مملكة الغامض والمثير.

***

في 1920 دارت معركة تل حي بالجليل الفلسطيني. عرب فلسطينيون هاجموا نقطة استيطان صهيونية. تزعم الجانب الصهيوني من المعركة يوسف ترومبلدور ولقى حتفه فيها. في أثناء دوران المعركة ناقشت اللجنة المؤقتة ليهود أرض إسرائيل "الوضع في الجليل الأعلى". أراد بعض القادة دعم زملائهم اليهود بأي شكل، وأراد بعضهم التخلي عنهم لأن المعركة خاسرة مقدماً، وإصدار الأمر للشباب بالانسحاب. كان بن جوريون من أنصار القتال حتى آخر نَفَس، على اعتبار "أننا إذا هربنا من أمام لصوص، فبنفس الشكل سوف نضطر قريباً لهجر ليس الجليل الأعلى فحسب وإنما كذلك أرض إسرائيل كلها"، وسانده بيرل كتسنلسون الذي قال: "من السهل في أية استراتيجية أن نبرهن مقدماً على حتمية الانهيار ومن الصعب الوعد بالنصر.. إننا نقف اليوم أمام نقاش قديم، نقاش لا تحسمه المزاعم المنطقية. هناك "بعد عملي" يزن الأمر مسبقاً يأمرنا بترك المكان بينما هناك بعد عملي آخر يصر على عدم هجر المكان حتى اللحظة الأخيرة وعندئذ يصيرغير الممكن ممكناً". هكذا تم الوقوف بقوة أمام المنطق العقلاني، وبشكل مفارق، فالعقل يخطئ، بينما الإيمان بالقلب والمشاعر هو أمر "عملي" أيضاً. العقل يصبح هنا غير عقلاني، والقلب يحقق المستحيل، القلب يصبح هو العقل. دعنا لا نعطي للحسابات العقلانية أكثر مما يجب، فهي ليست عقلانية تماماً.

***

دعونا لا ننسى أن الشعار الشهير لثورة 1968 في فرنسا "كن واقعيا.. واطلب المستحيل"، ليس بعيدا عن جدالنا هنا.

Sunday, September 25, 2011

المعجزة الفلسطينية أو كيف تحررت فلسطين من النهر إلى البحر


قررت مجموعة فلسطينية تحدي حل الدولتين لشعبين، والتركيز على حل الدولة الفلسطينية الواحدة من البحر إلى النهر لكل مواطنيها بلا تمييز.

أخذت هذه المجموعة تدعو لفكرتها طول الوفت. لاقت الفكرة انتشارا متزايدا بين الفلسطينيين، في الداخل والضفة والقطاع، انتشرت صفحة على الفيسبوك بعنوان "كلنا الدولة الواحدة"، دخل الصفحة في اليوم الأول لإطلاقها أكثر من مليون ونصف مشترك، ثم سرعان ما تحولت الدولة الواحدة إلى عنوان للنضال الفلسطيني. نسي الجميع حل الدولتين. أصبح جزءاً من الماضي التعيس.

في إحدى اللقاءات طرح أبو مازن هذا الحل على بيبي نتنياهو. قال له: "يا أخي عندي حل معقول. بدل الاحتلال والجيش والقرف دا، خدوا الأرض، بدال ما هي ارض محتلة ومالهاش صاحب، خدوها، خلوها بتاعتكو".

نظر له بيبي نتنياهو

- اه والله. مش مصدقني. بتكلم جد والنعمة.

واصل بيبي نتنياهو النظر. فجأة: "عزيزي سيد ابو مازن. هل انت جاد؟"

"والله العظيم جاد. وحياة بنتي آية." لحظة صمت "بس بشرط واحد. خدوا الارض بالناس اللي عليها"

قطب بيبي حاجبيه، ثم قال: "عظيم. سنستعمل الفلسطينيين لكي يستخرجوا لنا الحديد من بحيرة طبريا".

ولكن إسرائيل دولة ديمقراطية، كما يعرف الجميع، ولا برضى القانون الاسرائيلي أبداً بأن يعمل شعب كامل في استخراج الحديد من بحيرة طبريا. أصبح لزاماً على الدولة الاسرائيلية أن تستوعب القادمين الفلسطينيين بوصفهم بشراً ذوي أصوات انتخابية، وكانت هذه هي خدعة أبو مازن. تعداد الفلسطينيين بالداخل، مضافا إليهم الفلسطينيين بالقطاع والضفة – الذين أخذهم بيبي لتوه – سيشكل أغلبية أمام تعداد اليهود بالداخل. هذا لا يعني شيئا إلا تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. لم ينتبه أحد إلى هذا في حينها. سكر اليهود بنشوة الأراضي التي أصبحت – لأول مرة – من حقهم، شرعيا وقانونيا وبكل المستندات المطلوبة.

اتفق الطرفان أخيراً على وضع نهاية للصراع الدامي، ولكن عقبة صغيرة قد تبقت. ماذا سيكون اسم الدولة الجديدة، إسرائيل أم فلسطين أم اسم آخر؟ في هذا الوقت كان العالم قد أصبح شديد الإيمان بعدالة القضية الفلسطينية، وأينما تسير في أي مكان في العالم كنت تجد مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ومنددة بسلوكيات إسرائيل، في شوارع العالم العربي مثلما في القرى الأفريقية البعيدة، في الأرجنتين مثلما في نيبال. حتى في الأسكا. انتشرت صورة كبيرة لمجموعة من البطاريق تقف صفا واحدا وخلفها معلق ملصق مكتوب عليه "آي هيت إزرايل". مع كل هذا، مع اندلاع الثورات العربية في كل مكان حول إسرائيل، وشعور الإسرائيليين المتزايد بالخوف والخطر، لم تعد مجموعات الضغط اليهودية قادرة على الصمود أمام العالم كله. رضخت إسرائيل للطلب المتزايد بأن يكون اسم الدولة الجديدة هو "فلسطين".

ولكن اليهود ليسوا أغبياء. أعلن معهد "الخطر الديمغرافي الأكاديمي" الواقع في يافا عن الخطر الكامن في أن تصبح هناك دولة اسمها فلسطين تسكنها غالبية عربية وأن يختفي اسم "إسرائيل" للأبد. خرج من هناك البروفيسور نحميئيل ليفوفيتس بنتيجة مفادها إن العرب سيتحولون في غضون ستة أعوام إلى أغلبية كاسحة. كتب مقالة حزينة يندب فيها حلم إقامة دولة يهودية الذي انتهى أمام تعقيدات الواقع. هاجت جميع الصحف الدينية، وتصدرت أغلفتها عناوين "نهاية اليهودية"، "الشتات اليهودي يعود"، و"باي باي موسى". تلقفت السلطات الإسرائيلية هذه الحملة وبدأت تستعملها كورقة ضغط أمام المفاوض الفلسطيني:

- أنتم تريدون إطلاق اسم فلسطين على دولتنا. وسيحدث هذا، أوكي، ولكن هذا لن يحدث بدون شروط.

- وما الشروط عزيزي المفاوض الإسرائيلي؟

- يا عزيزي المفاوض الفلسطيني، الشروط ليست مستحيلة. نحن سنتوقف بهذه الحالة عن أن نكون إسرائيليين، وسنتوقف عن أن نكون صهيونيين، فليس هناك أقل من أن تتركونا يهوداً. سوف نضيف في الدستور الفلسطيني مادة تقول بأنه على أي حاكم يحكم هذه البلاد مستقبلا أن يحافظ على الطابع اليهودي لها. فلسطين هي دولة يهودية تقطنها غالبية عربية، وعلى الجميع الحفاظ على هذا.

- الطابع اليهودي؟ الطابع اليهودي؟ هممممم. وماله؟ نحن لسنا ضد اليهودية باي شكل. الإسلام يقول موسى نبي وعيسى نبي ومحمد نبي. هذا هو إسلامنا. في الواقع، فأنتم تتيحون لنا بهذا أن نكون مسلمين جيدين.

- شكرا عزيزي المفاوض الفلسطيني.

- عفواً عزيزي المفاوض الإسرائيلي.

وهكذا نشأت دولة فلسطين لأول مرة في التاريخ. دولة قوية، واسعة، ذات أغلبية عربية ولها طابع يهودي يتحتم الحفاظ عليه. بناء على هذا، لم يختلف علم فلسطين تقريباً عن علم إسرائيل: نجمة داود عملاقة، مع إضافة شمعدانات يهودية كأيقونات بصرية صغيرة مزروعة في خلفية العلم.

***

على مدار العقود التالية تحول اسم فلسطين إلى أيقونة، أيقونة شعب عاش تحت الاحتلال عقوداً طويلة واستطاع التخلص منه وبناء دولته بعد هزيمة الاحتلال. أيقونة دولة ديمقراطية، علمانية، تختار أغلبيتها العربية رؤساء حكوماتها بكل حرية، ولكنها مع هذا ترضى عن طيب خاطر بأن يكون طابع الدولة هو الطابع اليهودي. "لا شيء في فلسطين ضد الدين"، هكذا أعلنت الملصقات السياحية لفلسطين.

واليهود، ماذا عن اليهود الذين يبلغ تعدادهم الآن في فلسطين ثلاثة ملايين نسمة، بعد هجرة الكثيرين والكثيرين من الدولة الجديدة؟ إنهم يعيشون بسعادة داخل فلسطين، يعيشون داخل دولتهم التي لا تزال يهودية. ولكن شيئاً ما يحدث. كثير من اليهود، سواء حبا في الترقي الاجتماعي أو عن اقتناع، بدأوا يدخلون في الإسلام، وكثيرون آخرون بدأوا يهاجرون إلى دول أخرى أكثر تقدماً. بعد خمسة عقود لم تتبق إلا أسرة يهودية واحدة. أسرة البروفيسور نحميئيل ليفوفيتس، ذلك الذي كان قد حذر سابقاً من الخطر الديمغرافي العربي. لم يرض البروفيسور، ذو الميول المتدينة العظيمة، الهجرة من أرض الميعاد، وبالطبع لم يقبل التحول إلى الإسلام، وبالرغم من أنه كان هو من اقترح النص في الدستور الفلسطيني على أن يتم الحفاظ على الطابع اليهودي للدولة، إلا أنه شعر بعدم القدرة على التكيف. لقد ظل –ببساطة - يشعر بالحنين إلى أصدقائه. في الواقع فلقد كان بيت البروفيسور طول هذه الفترة مهجوراً، بعد أن غادره جيرانه وأقربائه وأصدقائه، ظل البيت وحيدا كورقة شجر مسكينة ترفرف بوهن في الهواء. داخله كان البروفيسور يدرس ويقرأ في أمور الشريعة اليهودية، يحافظ على السبت، يربى ابنتيه لتصبحا يهوديتين صالحتين، ولكن قلبه كان مكسوراً.

ذروة الحدث كان عندما رجع البروفيسور ذات سبت من المعبد. تعثر قرب بيته فتوسخت ثيابه بوحل الطريق. عندما وصل البيت نادى ابنتيه، سارة ودينا، وأخبرهما برغبته الحاسمة في المغادرة للأبد: "أنا حاولت. حاولت وحاولت وفشلت. الرب لم يكن راضياً عني. الرب وضع في طريقي طوبة لأتعثر بها، وعندما سقطت توسخت شراشيب ثيابي في الطين، كأن الرب كان يشير لي على الطريق الذي ينبغي علي أن أسلكه. أرض الميعاد ليست فلسطين".

- لكن يا بابا..

- ليس هناك لكن، مالكنش، أرض الميعاد هي الأرض التي يشعر فيها اليهود أنهم مبسوطون. وأنا لست مبسوطاً. الجمعة القادمة سنكون في نيودلهي عند أعمامكم. سنقضي السبت في معبد نيودلهي.

وافقت البنتان بعد بكاء كثير. في يوم الخميس التالي كان البروفيسور نحميئيل ليفوفيتس وابنتاه قد غادروا مطار القدس الدولي. وسجلوا بمغادرتهم رحيل آخر اليهود عن فلسطين. الآن فلسطين دولة تضم الجميع، مسلمين ومسيحيين ودروزاً، سنة وشيعة، إنجيليين وأرثوذكس وموارنة. دولة تضم الجميع ولكن بلا يهودي واحد. الجميع عرب في فلسطين الجديدة.

***

يمكن القول إن يوم رحيل البروفيسور من فلسطين كان يوماً مفجعاً بالنسبة للفلسطينيين. بحث الجميع عنه في كل مكان. تساءل جيرانه أين ذهب، أصيب مراهق في المدرسة بصدمة عصبية. المراهق كان عالقاً في قصة حب درامية مع ابنة البروفيسور. توقف عن الطعام والشراب ليومين كاملين، وامتنع عن دخول الامتحانات، وبعدها بشهرين مات، هكذا، انتحر. قبل انتحاره كان قد ترك قصاصة صغيرة مكتوب عليها: "البروفيسورهو الوحيد الذي أثبت أن هذه الأرض بإمكانها احتواء الجميع، الآن لم يعد بإمكانها احتواء الجميع"، بجانب قصة حبه اليائسة، فقد كان هذا هو الهم الأكبر للفلسطينيين. دولتنا لم تعد الدولة المثالية التي يتجاور فيها الجميع. في الجلسة التالية للمجلس التشريعي الفلسطيني وقف نائب برلماني وتساءل بسخرية كيف تكون هناك دولة ذات طابع يهودي ولا يقطنها يهودي واحد. صرخ بعنف: " يا إما تشيلولنا أم المادة دي من الدستور يا إما توفرولنا اليهود".

خرجت الصحف طبعاً لتندد بهذا النائب ذي الميول القومية المتطرفة. استشارت الصحف جميع علماء القانون في فلسطين وأفتوا كلهم فتوى شبه موحدة: "الدولة كيان اعتباري، الدولة غير أفراد الدولة. فرنسا مثلا علمانية، على الرغم من أن غالبية سكانها كاثوليك. تركيا علمانية وسكانها مسلمون. دولتنا هنا يهودية ومواطنها جميعهم عرب. فين المشكلة يعني"؟

ولأنه لم تكن هناك مشكلة، فقد وافق المجلس التشريعي بالإجماع على بقاء الطابع الرسمي لدولة فلسطين هو الطابع اليهودي. حدث هذا في محاولة للتكفير عن ذنب خروج البروفيسور من فلسطين. لقد حاول الفلسطينيون ترميم تلك الصدمة العظيمة في ضميرهم، كيف غادر رجل عجوز في التسعين من عمره، مع ابنتيه الوحيدتين، من بلادنا بدون أن يعلم أحد عنه شيئاً؟ بالإضافة إلى عقدة تقنية: لم يكن بالإمكان تغيير تلك المادة من الدستور التي تنص على أن فلسطين دولة ذات طابع يهودي صميم. المادة كانت مكتوبة بصراحة ، وتغييرها كان يعني طعن الأساس القانوني الذي قامت عليه دولة فلسطين.

***

الآن في فلسطين، التي تضم عشرة ملايين نسمة كلهم من العرب، يتم تدريس العبرية والييدشية في المدارس، العبرية هي لغة الدولة، تتم كتابة المعاملات الرسمية كلها بها، يتعلم كل الأطفال التوراة قبل دراستهم القرآن والأناجيل، توقد الشموع قبل كل سبت في المعابد الخاوية. تاريخ اليهود يصبح هو التاريخ الرسمي لدولة فلسطين، علاقات فلسطين بالدول العربية تسوء أكثر فأكثر، يتم تجنيد المزيد من الفلسطينيين للدخول في جيش الدفاع، ويتم إرسالهم في عمليات بلبنان والأردن ومصر وسوريا. الأفراد لم يكونوا مهمين في هذه الحالة. الدول، ككيانات اعتبارية، كدول لها طوابع مختلفة، يهودية وعربية، كانت تتحارب.

حاول بعض الفلسطينيين الخروج من هذا المأزق، مأزق الطابع اليهودي، ولكن هذا كان مستحيلاً، في مقابلهم كان هناك المؤمنون عن قناعة بالدستور كما هو، بوصفه دليلاً على النزاهة والفصل بين الدولة اليهودية والأفراد العرب. كل شهر كان يتم إرسال أسئلة للحاخام نحميئيل ليفوفيتس، كانت الدولة الفلسطينية تستفسر منه عن أمور متعلقة بالشريعة اليهودية، وبحدود الحرام والحلال في دولة محكومة بالطابع اليهودي. كان ليفوفيتس يرد بردود عاطفية غالباً، تدل على حنينه للدولة الوحيدة التي تقوم بتطبيق الشريعة اليهودية، على الرغم من عدم وجود يهودي واحد فيها.

قال الحاخام نحميئيل ليفوفيتس في إحدى رسائله: "أعرف معاناتكم أعزائي الفلسطينيين، أنتم تعرفون أنه لا يمكن لأي شخص الدخول في اليهودية. تعرفون أن هذا أمر صعب جداً، مستحيل بالأحرى، ولذا أقدر رغبتكم الشديدة في أن تصبحوا يهوداً، وعجزكم عن هذا في الوقت نفسه. أقدر قلوبكم الذهبية، ولكن هذا لا يكفي، وأنتم لا تستطيعون فعل ما يكفي. لذا أقول لكم، رجاء، عشان خاطري، والنبي، توقفوا عن هذا الهبل. الغوا المادة اياها من الدستور، فمهما فعلتم لن يبارككم الرب. إذن عيشوا مستريحين وريحوني". تم نشر الرد في الصحافة، ونشرت الصحيفة في افتتاحيتها رداً عليه يقول: "يبدو أن السيد ليفوفيتس يعتقد أننا نفعل هذا رغما عنا. القصة إننا شعب يقدر التزاماته، نحن، كشعب، لا نخرق معاهداتنا مهما حصل، نقول لك يا سيد ليفوفيتس: مهما فعلت، مهما أوحيت لنا، فنحن لن نتخلى عن الطابع اليهودي لبلدنا".

كان الفلسطينيون على صواب هذه المرة، عندما نتأمل القصة من بعيد، فبولاء أبناء فلسطين المطلق لدولتهم، وبتفضيلهم مصلحة الوطن على أية اعتبارات شخصية أو اجتماعية، وبالتزام أبناء الدولة المطلق بالدستور، أصبحت فلسطين هي أقوى دولة في الشرق الأوسط. وكانت هذه هي قصة المعجزة الفلسطينية